نشأته :- هو أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد العباسي الهاشمي القرشي . ولد سنة ( 179)هـ , وكانت أمه (ماردة) أحظى الناس عند الرشيد وأحبهم إلى قلبه .
كان ذا شجاعة نادرة وقوة جسمية خارقة وهمةٍ في مقارعة الخطوب فائقة .
يروي عنه وزيره أحمد بن أبي دؤاد فيقول : -كان العتصم يخرج ساعده إلي ويقول : يا أبا عبدالله , عض ساعدي باكثر قوتك . فأمتنع , فقول : إنه لا يضرني . فأروم ذلك وأعض ساعده , فإذا هو لا تعمل فيه (الأسنة) فضلاً عن الأسنان .
ومن مظاهر هذه القوة البدنية أنه كان يضع زند الرجل بين إصابعيه فيكسره .
إلا أن المعتصم مع صفات الرجولة هذه , لم يكن ميالاً الى العلم , ولا مقبلاً عليه .
المعتصم الخليفة :-
لما توفي المأمون سنة (218)هـ حمله ابنه العباس وأخوه المعتصم إلى طرطوس , فدفناه هناك وصلى عليه المعتصم . وفي اليوم نفسه بويع المعتصم بالخلافة بعد المأمون , إلا أن هذه البيعة لم تلق الرضا والقبول من الجند , فدب الشغب وتعالت الصيحات تطلب بأن يتولى العباس بن المأمون كرسي الخلافة , وكان بين المعتصم والعباس تنازع وخلاف . فأرسل المعتصم إلى العباس , فأحضره واسترضاه , ولم يكن العباس على ما يبدو راغباً في الخصومة طامعاُ في الحكم آنذاك , فما كان منه إلا أن انقاد إلى المعتصم وبايعه , فهدأت الثورة وسكت الجند
صفات المعتصم :-
كان المعتصم بالله من أعظم الخلفاء وأهيبهم , فكان يحيط نفسه بالوقار وياخذ بمظاهر الأبهة .
ولكن للمعتصم مواقف إنسانية تدل على طيب نفسه ونقاء سريرته , وميله إلى الخير والمعروف , ومد يد العون إلى الضعفاء والمحتاجين من الناس . فقد انقطع مرة عن أصحابه خارج المدينة في يوم شديد المطر , فبينما هو يسير إذ أبصر شيخاً معه حمار عليه حِملُ شوكٍ , وقدزلق الحمار فسقط ما على ظهره من حمل , والشيخ قائم حائر ينتظر من يمر به فيعينه في هذا الموقف الصعب . فسأله المعتصم عن حاله , فأخبره وأماراتُ العجزوالضعف بادية عليه . فنزل المعتصم من على دابته وأخذ يخلص الحمار من الوحل , ثم رفع الحمل بيديه وأعاده على ظهر الحمار , والشيخ ينظر إلى المعتصم ويشفق عليه وهو لا يعرفه , فقال له :- بأبي أنت وأمي , لا تبلل ثيابك فيزول ما عليك من طيب . فأجابه المعتصم وهو يواصل عمله :-
لا عليك أيها الشيخ . ثم إنه خلص الحمار , وجعل الشوك على ظهره وغسل يديه , ثم ركب , فقال الشيخ والفرح يغمر قلبه لما وجد في المعتصم من المرؤة والنجدة :- غفر الله لك ياشاب . وما هي إلا لحظات حتى أقبل أصحاب المعتصم والشيخ يتهيأ للانصراف . فأمر له المعتصم بأربعة آلاف درهم . ولم يكتف بذلك بل وكل به من يسير معه إلى بيته .
اعمال المعتصم بالله :
-القضاء على (الزط) وهي فئة من الهنود اثاروا الفتن والقلاقل , فكمنوا في طريق البصرة , ثم أغاروا على الفلاحين , فسرقوا الغلات والبيادر , ونشروا الذعر في كل مكان , حتى خافهم المسافرون وعابرو السبيل , فوجه المعتصم إليهم القائد عُجيف بن عنبسة فقضى عليهم .
-القضاء على (الخرمية )وهم طائفة ديانتهم تقوم على إباحة المحرمات من الملاذ ونكاح ذوات المحارم , فيتزوج الرجل أمه أو أخته أو ابنته , كما تقوم على كره العرب والاسلام , والعمل على إحياء دين المجوس , والاعتقاد بتناسخ الأرواح. فارسل عليهم المعتصم قائداً تركياً يقال له (الأفشين) فقضى عليهم حميعاً .
-بناء مدينة سامُراء :
- كان المعتصم يحب جمع الاتراك وشرائهم من أيدي مواليهم , فاجتمع له منهم أربعة آلاف , ثم أخذوا يتزايدون , ثم ضاقت بغداد بهؤلاء الجنود الاتراك , وضجر منهم الناس , فذهب المعتصم خارج بغداد يتفحص الأماكن القريبةالصالحة للإقامة والسكن , حتى وصل إلى بقعة كان الرشيد قد حفر فيها نهراً سماه (القاطول) فاستطاب المعتصم هذه البقعة . وسأل عن اسم هذه البقعة , فقيل له : اسمها سامراء , وهي بالفارسية سام راه , أي طريق سام , لأن سام بن نوح كان قد بنى فيها مدينة في غابر الأزمان . وربما دعيت (سومر ) . إلا أن العرب زمن المعتصم كانوا يسمونها (سُر من رأى ) فاحضر المعتصم العمال والصناع وأهل المهن من سائر الامصار , ونقلت اليها أنواع الغروس والاشجار , فارتفع البناء وشيدت الدور والقصور , واستنبطت المياه وجرت من دجلة وغيرها , واتسع الرزق وازداد الخصب , حتى أصبحت (سر من رأى ) من أعظم الحواضر الاسلامية أيام المعتصم والواثق والمتواكل والمنتصر , حتى ولي الخلافة المعتضد , فتركها إلى بغداد , وبدأ الخراب يمد يده اليها . وقد شرع المعتصم ببنائها سنة 221 هـ .
فتح عمورية :
- كان الروم يرقبون انشغال المعتصم بحرب الخرمية , وتوزع جيشه في تتبع فلولهم , فيرون الفرصة سانحة للإغارة على البلاد الإسلامية والقضاء عليها .
ففي عام( 223 ) للهجرة خرج (توفيل ) ملك الروم ومعه عساكر , فنزل بلدة (زبطرة ) الإسلامية التي تقع على الحدود الرومية , اغارو عليها بالسيف وقتل فيها الصغير والكبير , ومثل بأهلها , وسبى النساء , واكثر من إراقة الدماء , واستعمل أبشع أنواع الغدر والواحشية , حتى ضج الناس وعلت أصواتهم بالدعاء وطلب النجدة .
وارتفعت مع هذه الأصوات صيحة ( وامعتصماه ) أطلقتها امرأة مسلمة هاشمية ( علوية ) حين اقتادها الروم أسيرة في أيديهم . ولما بلغ المعتصم هذا النبأ , انتفضت فيه الحمية والغيرة , وكأن صوت المرأة المسلمة المستغيثة يقرع سمعه , فأجابها ( لبيك , لبيك ) ونهض من ساعته وصاح في قصره : النفير النفير .
فأقبل المتطوعين من مختلف البلاد لا يحصون عدداً حتى بلغ عدد العساكر فيما يقال (500 ) ألف جندي . فكان بدهياً أن يقابل المعتصم (توفيل ) بمثل عمله , فسأل عن أعظم مدينة عند الروم , فقيل : هي ( عمورية) , فأقسم ليحرقنها ولفتكن بأهلها.
فانطلق وتوغل في ارض الروم وسد الطرق على الاعداء , ففتح الحصون وخرب القلاع , وقتل من الروم أكثر من ثلاثين ألف , حتى بلغ ( عمورية ) ذات الأسوار المنيعة , ففتحها الله على يديه وأقام عليها أربعة أيام يهدم ويحرق ويدمر و فخرج إليه بطريقها وسلمها إليه.
وقبل غزو المعتصم عمورية حكم المنجمون أن ذلك طالع نحس , وأنه إذا غزاها في هذا الوقت فسيكسر جيشه وسيهزم أمام الروم , فلم يعبأ بأقوالهم وادعاءاتهم , فكان أن كتب الله له النصر والظفر .
وقد خلد الشاعر أبو تمام هذه الحملة بقصيدة شعرية رائعة عرض فيها سخرية المعتصم من المنجمين , ووصف بطولته النادرة وثباته في الحرب , وشمت بالروم وما لحق بهم من هزيمة , وما أصابهم من نكبة حين ارتفعت ألسنة اللهب في قلب مدينتهم عمورية , فقال :
السيف أصدق أنباء من الكتب *** في حده الحد بين الجد واللعب
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به *** نظم من الشعر أو نثر من الخطب
تدبير معتصم بالله , منتقم *** لله , مرتقب في الله , مرتغب
لبيتَ صوتاً زبطرياً هرقت له *** كأس الكرى ورضاب الخردِ العربِ
وأراد المعتصم أن يتوغل إلى القسطنطينية , وأن يحاول فتحها براً وبحراً , فأتاه ما صرفه عما عزم عليه , إذ بلغه أن العباس بن المأمون قد اجتمع حوله عدد من أنصاره وبايعوه على الخلافة , فقفل المعتصم راجعاً إلى سامراء , وحبس العباس وأنصاره .
القضاء على الأفشين :
- كان الأفشين قائد المعتصم يظهر خلاف ما يضمر , ويساير الخليفة وفي نفسه أخبث النوايا , واكتشف المعتصم أنه كان يرسل الأموال سراً إلى جماعة له من عبدة النار في بلاد العجم , لتقوية الدعوة إلى الدين المجوسي , وكانوا يبدؤون رسائلهم إليه بقولهم : إلى إله الآلهة .
ويتربصون بالعرب الدوائر , وعثر المعتصم على كتاب محلى بالذهب عند الأفشين فيه كثير من الكفر والفساد في العقيدة , وفي سلوكه اليومي يظهرمنه أمور تخالف الشرع الإسلامي , فقد نقل عنه أنه يأكل لحم المنخنقة التي حرمها الله تعالى , ويزعم أنها أرطب من المذبوحة .
وأنه يطمع في ولاية خرسان .
واجتمعة عند المعتصم الأدلة على سوء طوية الأفشين , فقبض عليه في سنة (227) هــ , فأمر بقتله وصلبه ثم إحراق جثته . فقال أبو تمام يصف مشهد حرق الأفشين :
مازال سر الكفر بين ضلوعه *** حتى اصطلى سر الزناد الواري
صلى لها حياً , وكان وقودها *** ميتاً , ويدخلها مع الفجارِ
[right]
وفاة المعتصم بالله :
- فقد فات المعتصم العلم , ولكن لم يفته الحزم والعزم , فقد دامت خلافة تسع سنوات كانت حافلة بالبطولات المشرفة والهمم الوثابة العالية , فلم يلق وجه ربه الكريم إلا بعد أن حمى بلاد الإسلام من الأعداء وأمن العباد. فلما حضرته الوفاة في سنة (228) هــ تلا الآية الكريمة : <(( حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ))>
ثم قال :
الهم إنك تعلم أني أخافك من قبلي , ولا أخافك من قبلك , وأرجوك من قبلك ولا أرجوك من قبلي .
ثم قضى نحبه وهو ابن ثمان واربعون سنة , رحمه الله رحمه واسعة وأسكنه فسيح جناته .